تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي ، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الأنبياء عليهم‌السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح : هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل : المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.

(فَالْعاصِفاتِ) أي : الرياح الشديدة (عَصْفاً) أي : عظيما بما لها من النتائج الصالحة ، وقيل : الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح ، وقيل : الملائكة تعصف بروح الكافر يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه ، وناقة عصوف أي : تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم أي : ذهبت بهم. وقيل : يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي : الرياح اللينة تنشر المطر. وقال الحسن : هي الرياح التي يرسلها الله تعالى بين يدي رحمته ، وقيل : الأمطار لأنها تنشر النبات بمعنى تحييه. وروي عن السدي أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى. وروى الضحاك أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.

تنبيه : إنما قال الله تعالى (وَالنَّاشِراتِ) بالواو لأنه استئناف قسم آخر.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي : الرياح تفرق السحاب وتبدده قاله مجاهد ، وعن ابن عباس هي الملائكة تفرّق الأقوات والأرزاق والآجال ، وقيل : هم الرسل فرّقوا بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه أي : بينوا ذلك ، وقيل : آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أي : الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : هو جبريل عليه‌السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيما.

فإن قيل : ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم؟ أجيب : بأنّ الملائكة روحانيون ، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.

وقيل : المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم ، وذكرا مفعول به ناصبه الملقيات.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) مصدران من عذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور ، وجمع نذير بمعنى الإنذار ، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكرا على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له ، وإمّا على الوجه الثالث ، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ (أَوْ نُذْراً) نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها.

وقوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم ، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة ، وقال الكلبي : المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع.

ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ) أي : على كثرتها (طُمِسَتْ) أي : محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها ، وهو موافق لقوله تعالى : (انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢٠] و (انْكَدَرَتْ) [التكوير : ٢] قال الزمخشري : ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.

(وَإِذَا السَّماءُ) أي : على عظمها (فُرِجَتْ) أي : فتحت وشققت فكانت أبوابا ، والفرج الشق ونظيره (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١].

٥٢١

(وَإِذَا الْجِبالُ) أي : على صلابتها (نُسِفَتْ) أي : ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء : إذا اختطفته ، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف ، ونحوه (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة : ٥](وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤].

(وَإِذَا الرُّسُلُ) أي : الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكذبوا (أُقِّتَتْ) قال مجاهد والزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم ، أي : جمعت لميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة ، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ، فالمعنى : جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩]. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان ، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت.

وقوله تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ) أي : عظيم متعلق بقوله تعالى : (أُجِّلَتْ) وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي : يقال لأي يوم أجلت ، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جوابا لإذا وأن يكون حالا من مرفوع (أُقِّتَتْ) أي : مقولا فيها لأي يوم أجلت أي : أخرت ، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل. وقيل : اللام بمعنى إلى ، ذكره مكي. قال ابن عباس : يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٤٠].

ثم أتبع هذا التعظيم تعظيما آخر بقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.

ثم أتبعه تهويلا ثالثا بقوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون يوم الفصل (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بذلك ، قال القرطبي : ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل ، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم ، فإنّ لكل مكذب بشيء عذابا سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر ، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه لغيره ؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى ، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه ، وهو قوله تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦]. وقيل : كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد ، وروي عن النعمان بن بشير قال : ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب ، وقاله ابن عباس وغيره ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل» (١) ، وروي أيضا أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم ، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض ، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات ، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتنا.

تنبيه : ويل مبتدأ ، وسوّغ الابتداء به الدعاء ، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري : فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٥٨.

٥٢٢

لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون ، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.

(أَلَمْ نُهْلِكِ) أي : بما لنا من العظمة (الْأَوَّلِينَ) من لدن آدم عليه‌السلام إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي : أهلكناهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي : ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم ؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يوجد ذلك الفعل (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بآيات الله وأنبيائه ، قال البيضاوي : فليس تكرارا وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة ، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) أي : أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف حقير وهو المني ، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين : الأوّل : أنّه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني : أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء ، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة ، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وهذه الآية نظير قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨]. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضا إدغام الصفة مع الحذف.

(فَجَعَلْناهُ) أي : بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم (فِي قَرارٍ) أي : مكان (مَكِينٍ) أي : حريز وهو الرحم.

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي : وهو وقت الولادة ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤].

(فَقَدَرْنا) أي : ذلك دون غيرنا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن ، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى : فقدّرناه والباقون بالتخفيف ، وقال عليّ كرم الله وجهه : ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحدا ؛ لأنّ العرب تقول : قدر وقدر عليه الموت.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان ذلك (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.

وقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ) أي : نصير بما شئنا بما لنا من العظمة (الْأَرْضَ كِفاتاً) مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.

(أَحْياءً) أي : على ظهرها في الدور وغيرها (وَأَمْواتاً) أي : في بطنها في القبور وغيرها. وقيل : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت ، وقيل : كفاتا جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم ، وقال الخليل : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : انقلبوا ، فمعنى

٥٢٣

الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.

(وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من القدرة التامّة (فِيها) أي : الأرض (رَواسِيَ) أي : جبالا لولاها لمادت بأهلها ، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافا لمراسي السفن (شامِخاتٍ) أي : مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّا ، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر ، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ ، كما قال لقمان لابنه : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان : ١٨].

(وَأَسْقَيْناكُمْ) أي : بما لنا من العظمة (ماءً) أي : من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك (فُراتاً) أي : عذبا تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم ، وهذه الأمور أعجب من البعث ، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تقوم الساعة (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بأمثال هذه النعم.

وقوله تعالى : (انْطَلِقُوا) على إرادة القول ، أي : يقال للمكذبين يوم القيامة : انطلقوا. (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب يعني : النار فقد شاهدتموها عيانا.

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) أي : ظل دخان جهنم لقوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) [الواقعة : ٤٣]. (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي : تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش ، وقيل : إن الشعب الثلاث : هي الضريع والزقوم والغسلين ؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى : (لا ظَلِيلٍ) أي : كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. (وَلا يُغْنِي) أي : ولا يردّ عنهم شيئا (مِنَ اللهَبِ) أي : لهب النار ، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس ، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر.

(إِنَّها) أي : النار (تَرْمِي) أي : من شدّة الاشتعال (بِشَرَرٍ) وهو ما تطاير من النار (كَالْقَصْرِ) أي : كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود : يعني الحصون ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قيل : هي الخشب العظام المقطعة ، قال : وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر.

وقوله تعالى : (كَأَنَّهُ) أي : الشرر جمالات قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع ، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلا وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى : (صُفْرٌ) جمع أصفر أي : في هيئتها ولونها. وفي الحديث «شرار النار أصفر كالقير» (١) والعرب تسمي سود الإبل صفرا لشوب سوادها بصفرة ، فقيل : صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي (٢) :

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٤ / ٦٨١.

٥٢٤

قال الترمذيّ : وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل ، فينسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) فلا نسلم من هذا شيئا في اللغة. وقيل : شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها ، وقيل : لمتابعة بعضها بعضا.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون ذلك (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بهذه الأمور العظام.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

(هذا) أي : يوم القيامة (يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي : بشيء من فرط الدهشة والحيرة ، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف ، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت ، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون.

وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) و (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه : ١٠٨] و (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] فقال : إنّ الله تعالى يقول : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقال الحسن : فيه إضمار أي : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة ، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع ، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد : ما قلت شيئا. وقيل : إنّ هذا وقت جوابهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) أي : في العذر وقوله تعالى : (فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي : لا إذن فلا اعتذار.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان هذا الموقف (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : الذين لا تقبل منهم معذرة.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي : يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل (جَمَعْناكُمْ) أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة (وَالْأَوَّلِينَ) من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : جمع الذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين كذبوا النبيين من قبل.

وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي : حيلة في دفع العذاب عنكم (فَكِيدُونِ) أي : فاحتالوا لأنفسكم وقاوون ، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب ، وقيل : إنّ ذلك من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون كقول هود عليه‌السلام (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥].

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : الراسخين في التكذيب في ذلك.

٥٢٥

ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي : الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين (فِي ظِلالٍ) أي : تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها (وَعُيُونٍ) أي : من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥]. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.

(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.

وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي : هم مستقرّون في ظلال مقولا لهم ذلك.

وقوله تعالى : (هَنِيئاً) حال أي : متهنئين (بِما) أي : بسبب ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من طاعات الله تعالى.

(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (كَذلِكَ) أي : كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعمالهم في الدنيا.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.

وقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) خطاب للكفار في الدنيا (قَلِيلاً) أي : من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم ، ويجوز أن يكون ذلك خطابا لهم في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم ، وكانوا من أهله تذكيرا بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد ، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلا وذكر الأول ثانيا ، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولا وهو أولى. قال بعض العلماء : التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين ، والسعي لها من أفعال الظالمين ، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين ، والسكون فيها على حد الإذن ، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين ، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين ، وأهل الحقيقة أجل خطرا من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.

ثم علل ذلك مؤكدا بقوله تعالى لأنّهم ينكرون وصفهم بذلك : (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياما قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبدا.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تعذبون بإجرامكم (لِلْمُكَذِّبِينَ) حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي : لهؤلاء المجرمين من أي : قائل كان (ارْكَعُوا) أي : صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها ، وخص هذا الجزء لأنّه يقال على الخضوع والطاعة ولأنّه خاص بصلاة المسلمين (لا يَرْكَعُونَ) أي : لا يصلون ، قال الرازي : وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها ، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه ، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على

٥٢٦

استكبارهم ، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة فقالوا : لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» (١). قال في القاموس : جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه ، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة ؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم ، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به ، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب.

فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به.

وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون الفصل (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بما أمروا به.

قال الرازي : إنّه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار ، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي : القرآن (يُؤْمِنُونَ) أي : لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره ، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان ، فإذا كان حديثا وجب أن لا يكون قديما. وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والمرسلات كتب الله تعالى له أنه ليس من المشركين» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الخراج حديث ٣٠٢٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢١٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٤٤٥ ، والطبراني في المعجم الكبير ٩ / ٤٥.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٨٤.

٥٢٧

سورة عم يتساءلون

وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الملك كله (الرَّحْمنِ) الذي عم الوجود بفضله (الرَّحِيمِ) الذي تمحضت أولياؤه جنته. وقوله تعالى :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(عَمَ) أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما ، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان (١) :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد

ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء (يَتَساءَلُونَ ،) ونحوه قولك : زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك ، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول : ما الغول ، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء. هذا أصله ، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية ، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٣٢٤ ، والأزهية ص ٨٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٣٠ ، والدرر ٦ / ٣١٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٤٥ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٢٤ ، ولسان العرب (قوم) ، والمحتسب ٢ / ٣٤٧ ، ولحسان بن منذر في شرح شواهد الإيضاح ص ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٩ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٠٤ ، وشرح المفصل ٤ / ٩.

٥٢٨

السكت بخلاف عنه ، والضمير في يتساءلون لأهل مكة ، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد ، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء ، وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعا وكانوا جميعا يتساءلون عنه ، أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا ، وأما الكافر فليزداد استهزاء.

ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا؟ فقال تعالى : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال مجاهد والأكثرون : هو القرآن ، دليله قوله تعالى : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) [ص : ٦٧] وقال قتادة : هو البعث.

فإن قيل : إذا كان الضمير يرجع للكافر ، فكيف يكون قوله تعالى : (الَّذِي هُمْ) أي : بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر (فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث؟ أجيب : بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى ، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك ، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيرا وقيل : المتساءل عنه نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع للمتسائلين هزؤا ، (سَيَعْلَمُونَ) ما يحل بهم على إنكارهم له. وقوله تعالى : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك : الأولى للكفار والثانية للمؤمنين ، أي : سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.

ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ) أي : بما لنا من العظمة (الْأَرْضَ مِهاداً) أي : فراشا كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.

(وَالْجِبالَ) أي : التي تعرفون شدّتها وعظمها. (أَوْتاداً) أي : تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد ، والاستفهام للتقرير ، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث ، وأنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.

تنبيه : مهادا مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالا مقدّرة.

(وَخَلَقْناكُمْ) أي : بما دل على ذلك من مظاهر العظمة (أَزْواجاً) أي : أصنافا ذكورا وإناثا وقيل : ألوانا.

(وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي : راحة لأبدانكم. قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل : معناه جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم وقيل : المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا) أي : بما لنا من العظمة (اللَّيْلَ) أي : بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن (لِباساً) فيه استعارة أي : يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هربا من عدوّ أو بياتا له

٥٢٩

أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر (١) :

وكم لظلام الليل عندي من يد

تخبر أنّ المانوية تكذب

ولما جعل النوم موتا جعل اليقظة معاشا فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا) أي : بما لنا من القدرة التامّة (النَّهارَ) أي : الذي آيته الشمس (مَعاشاً) أي : حياة تبعثون فيه عن نومكم ، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشا على هذا اسم زمان.

(وَبَنَيْنا) بما لنا من الملك التامّ (فَوْقَكُمْ سَبْعاً) أي : سبع سماوات وقوله تعالى : (شِداداً) جمع شديدة أي : قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

(وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا (سِراجاً) أي : منيرا متلألئا (وَهَّاجاً) أي : وقادا وهي الشمس.

(وَأَنْزَلْنا) أي : بما لنا من كمال الأوصاف (مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي : السحاب إذا أعصرت أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع أي : حان أن يجز ، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.

وعن الحسن وقتادة : هي السماوات ، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل : من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل : الرياح ذوات الأعاصير ، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. (ماءً ثَجَّاجاً) أي : منصبا بكثرة يقال : ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث : «أفضل الحج العج والثج» (٢) أي : رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي ، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجا يسيل غربا ، يعني : يثج الكلام ثجا في خطبته.

(لِنُخْرِجَ) أي : بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب (بِهِ) أي : بذلك الماء (حَبًّا) أي : نجما ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز (وَنَباتاً) أي : ما يعتلف به كالتبن والحشيش ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [طه : ٥٤](وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) [الرحمن : ١٢].

(وَجَنَّاتٍ) أي : بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره (أَلْفافاً) أي : ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف. وقيل : هو جمع الجمع ، يقال : جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل : لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : الواحد لف. قال صاحب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي (٣) :

جنة لف وعيش مغدق

وندامى كلهم بيض زهر

وقال الزمخشري : ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها.

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) أخرجه الترمذي في الحج حديث ٨٢٧ ، وابن ماجه حديث ٢٨٩٦ ، ٢٩٢٤ ، والدارمي في المناسك باب ٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٣٠ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٤٥٠.

(٣) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٤ / ٦٨٧.

٥٣٠

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : بين الخلائق (كانَ) أي : في علم الله تعالى وفي حكمه كونا لا بدّ منه (مِيقاتاً) أي : وقتا للثواب والعقاب ، أو وقتا توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي : القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له ، والنافخ إسرافيل عليه‌السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك (فَتَأْتُونَ) أي : بعد القيام من القبور إلى الموقف (أَفْواجاً) أي : جماعات مختلفة.

وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكيا ، وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي ، بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صما بكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

ثم فسر هؤلاء بقوله : فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني : النمام ، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» (١) ا. ه. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا ، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي : شققت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) فإن قيل : هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبوابا؟ أجيب بوجوه أوّلها : أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبوابا مفتحة ، كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها : أنه على حذف مضاف ، أي : فكانت ذات أبواب. ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى : (فَكانَتْ أَبْواباً) يعود إلى مضمر ، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا ، وقيل : الأبواب الطرق والمسالك أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقا لا يسدها شيء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي : ذهب بها عن أماكنها (فَكانَتْ سَراباً) أي : لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء ، قال الرازي : إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] والحالة الثانية : أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى :

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٧٥.

٥٣١

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ـ ٦] الحالة الرابعة : أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض ، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] الحالة الخامسة : أن تصير سرابا أي : لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.

(إِنَّ جَهَنَّمَ) أي : النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون (كانَتْ مِرْصاداً) أي : ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلا فيقال : انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله ، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.

وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى : (لِلطَّاغِينَ) أي : الكافرين (مَآباً) أي : مرجعا يرجعون إليه.

وقرأ حمزة (لابِثِينَ فِيها) بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي.

وقوله تعالى : (أَحْقاباً) جمع حقب والحقب الواحد ثمانون سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة ، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال مجاهد : الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا. وقال الحسن : إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد ، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود ، روي عن عبد الله أنه قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان : الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال : وهذه الآية منسوخة نسختها (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠] يعني : أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار ، ويجوز أن يراد (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً.)

(لا يَذُوقُونَ) أي : غير ذائقين (فِيها) أي : النار (بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب ، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالا عنهم يعني : لابثين فيها حقبين جهدين ، وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) تفسير له والاستثناء منقطع يعني : لا يذوقون فيها بردا. قال عطاء والحسن : أي : راحة وروحا ، أي : ينفس عنهم حرّ النار ولا شرابا يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما أي : ماء حارّا غاية الحرارة وغساقا وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس

٥٣٢

رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله ، قال الكسائي وأبو عبيدة : تقول العرب منع البرد البرد أي : أذهب البرد النوم ، قال الشاعر (١) :

فلو شئت حرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.

جوزوا بذلك (جَزاءً وِفاقاً) أي : موافقا لعملهم قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار.

وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) بيان لما وافقه هذا الجزاء أي : لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : بما جاءت به الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : القرآن وقرأ (كِذَّاباً) غير الكسائيّ بالتشديد أي : تكذيبا ، قال الفراء : وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر (٢) :

فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه

قال الزمخشري : وهو مثل قوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا ، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا ؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.

(وَكُلَّ شَيْءٍ) أي : من الأعمال وغيرها (أَحْصَيْناهُ) أي : ضبطناه ، وقوله تعالى : (كِتاباً) فيه وجهان أحدهما : أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط ، ثانيهما : أن يكون حالا بمعنى مكتوبا في اللوح المحفوظ كقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢]. وقيل : أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١١] والجملة اعتراض.

وقوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) أي : شيئا من الأشياء في وقت من الأوقات (إِلَّا عَذاباً) تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ، قال الرازي : وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات ، ومنها إعادة قوله تعالى : (فَذُوقُوا) بعد ذكر العذاب ، قال أبو بردة : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشدّ آية في القرآن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو للأعشى في شرح شواهد الإيضاح ص ٦٠٦ ، ولسان العرب (صدق) ، ولم أقع عليه في ديوانه ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٦ / ٤٤.

٥٣٣

عَذاباً)(١) أي : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] و (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧].

ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي : مكان فوز في الجنة.

وقوله تعالى : (حَدائِقَ) أي : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازا بدل الاشتمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى : (وَأَعْناباً) أي : كروما عطف على مفازا.

(وَكَواعِبَ) أي : جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب (أَتْراباً) أي : على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل : الأتراب اللدات.

(وَكَأْساً دِهاقاً) أي : خمرا مالئة محالها وفي القتال (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال : قطني ، وقال ابن عباس : مترعة مملوءة. وقال عكرمة : صافية.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي : الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال (لَغْواً) أي : لغطا يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى ، وقوله تعالى : (وَلا كِذَّاباً) قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون ، أي : تكذيبا من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى : (عَطاءً) بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوبا بجزاء نصب المفعول به ، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة التي هي (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) قال : والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافا (حِساباً) أي : كافيا وافيا يقال : أحسبت فلانا أي : أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي : عطاء كثيرا ، وقيل : جزاء بقدر أعمالهم.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.

أما رفعهما فمن أوجه : أحدها : أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي : هو رب والرحمن كذلك ، أو مبتدأ خبره لا يملكون ، ثانيها : أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره ، ولا يملكون خبرا ثانيا أو مستأنفا ، ثالثها : أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته ، ولا يملكون خبر رب. رابعها : أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانيا ولا يملكون خبره ، والجملة خبر الأوّل ، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفش ، ويجوز أن يكون لا يملكون حالا وتكون لازمة.

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٣١٠.

٥٣٤

وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السموات تابعا للأوّل والرحمن تابعا للثاني ، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني ، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي : الخلق. (مِنْهُ) أي : من الله تعالى (خِطاباً) والضمير في لا يملكون لأهل السموات والأرض أي : ليس في أيديهم ما يخاطب به الله ، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون (يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) وقوله تعالى : (صَفًّا) حال أي : مصطفين ، والروح أعظم خلقا من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا ، فيكون عظم خلقه مثلهم ، وقال الشعبي : هو جبريل عليه‌السلام ، وقيل : ملك موكل على الأرواح.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده.

وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم : الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم ، وقال الحسن رضي الله عنه : هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : هذا ما كان يكتمه ابن عباس ، وقيل : هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل : أرواح بني آدم ، وقال زيد بن أسلم : هو القرآن ، وقرأ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وإذا كان هؤلاء (لا يَتَكَلَّمُونَ) وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم ، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض ، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين.

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) أي : في الكلام إذنا خاصا (الرَّحْمنُ) أي : الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه (وَقالَ) قولا (صَواباً) في الدنيا أي : حقا من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان : أن يكون المتكلم مأذونا له في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقيل : القول الصواب لا إله إلا الله.

(ذلِكَ) أي : المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته (الْيَوْمُ الْحَقُ) أي : الكائن لا محالة وهو يوم القيامة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) أي : المحسن إليه (مَآباً) أي : مرجعا وسبيلا لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم ، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختيارا ، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى.

(إِنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (أَنْذَرْناكُمْ) أي : يا كفار مكة (عَذاباً قَرِيباً) أي : عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب ، وقوله تعالى : (يَوْمَ) ظرف لعذابا بصفته (يَنْظُرُ الْمَرْءُ) أي : كل امرئ سواء كان مؤمنا أو كافرا نظرا لا مرية فيه (ما) أي : الذي (قَدَّمَتْ يَداهُ) أي : كسبه في

٥٣٥

الدنيا من خير وشرّ ، وقال الحسن رضي الله عنه : أراد بالمرء المؤمن أي : يجد لنفسه عملا ، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا فيتمنى أن يكون ترابا ، ولأنه تعالى قال : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل : هو الكافر لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) فيكون الكافر ظاهرا وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الشرّ كقوله تعالى : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ٩ ـ ١٠] وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي : ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال : نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف.

وقال مقاتل رضي الله عنه : نزل قوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، و (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) في أخيه الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس ، وذلك أنه عاب آدم عليه‌السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.) قال : ورأيته في بعض التفاسير.

قال البغويّ : قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب : لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير : كونوا ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : فلا أعذب وقيل : معنى (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : لم أبعث. وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ : عودوا ترابا فيعودون ترابا فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ،) وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون ترابا. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما : مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها ، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم ، وقيل : يحشر الله تعالى الحيوان غير المكلّف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه ترابا فيودّ الكافر حاله.

وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة عمّ سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٩٢.

٥٣٦

سورة النازعات

مكية ، وهي خمس أو ست وأربعون آية ومائة وسبعون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط علمه بالكائنات (الرَّحْمنِ) الذي أنعم على سائر الموجودات (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بالجنات

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

(وَالنَّازِعاتِ) أي : الملائكة تنزع أرواح الكفار (غَرْقاً) أي : تنزع أرواحهم من أجسادهم بشدّة كما يغرق النازع في القوس ليبلغ بها غاية المدّ بعدما نزعها ، حتى إذا كادت تخرج ردّها إلى جسده فهذا عملهم بالكفار. وقال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما : يريد نفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب ، ثم يغرقها أي : يرجعها إلى أجسادهم ثم ينزعها ، فهذا عمله في الكفار.

وقال السدّي رضي الله عنه : والنازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور ، وقال مجاهد رضي الله عنه : هي الموت ينزع النفوس. وقال الحسن وقتادة رضي الله عنهم : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم : هي النفوس ، وقيل : الغزاة.

تنبيه : غرقا يجوز أن يكون مصدرا على حذف الزوائد بمعنى إغراقا ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى ، وأن يكون على الحال أي : ذوات إغراق. يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) أي : الملائكة تنشط أرواح المؤمنين أي : تسلها برفق فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه.

٥٣٧

وفي الحديث : «كأنما نشط من عقال» (١). وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «هي أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة ؛ لأنّ الجنة تعرض عليهم قبل الموت». وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : «هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكد والغم» والنشط الجذب والنزع ، يقال : نشط الدّلو نشطا انتزعها. وقال السدّي رضي الله عنه : هي النفس تنشط من بين القدمين ، أي : تجذب ، وقال قتادة رضي الله عنه : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب. يقال : نشط من بلد إلى بلد إذا خرج في سرعة ، ويقال حمار ناشط ينشط من بلد إلى بلد. وقال الجوهري : يعني النجوم تنشط من برج إلى برج ، كالثور الناشط من بلد إلى بلد.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) أي : الملائكة تسبح من السماء بأمره أي : ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد. يقال له : سابح إذا أسرع في جريه ، وقال عليّ رضي الله عنه : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. قال الكلبي : كالذي يسبح في الماء ، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونها سلا رفيقا بسهولة ، ثم يدعونها حتى تستريح. وعن مجاهد رضي الله عنه : السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقال قتادة والحسن رضي الله عنهم : هي النجوم تسبح في أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر ، قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣]. وقال عطاء : هي السفن في الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته حتى تخرج ، وقيل : هي خيل الغزاة ، قال عنترة (٢) :

والخيل تعلم حين تس

بح في حياض الموت سبحا

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) أي : الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وقال مجاهد رضي الله عنه : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقا إلى لقاء الله تعالى وكرامته ، وقد عاينت السرور. وقال قتادة رضي الله عنه : هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق في الجهاد ، وقيل : هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. قال الجرجاني : ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها ، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن.

قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي : الملائكة تدبر أمر الدنيا ، أي : تنزل بتدبيره. قال الرازي : ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره ، فتكون هذه أفعالا يتصل بعضها ببعض ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها.

__________________

(١) انظر البخاري في الإجارة باب ١٦ ، والطب باب ٣٩ ، وأبو داود في البيوع باب ٣٧ ، والطب باب ١٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، ٥ / ٢١١.

(٢) يروى البيت بلفظ :

والخيل تعلم حين تض

بح في حياض الموت ضبحا

واليبت من مجزوء الكامل ، وهو لعنترة في ملحق ديوانه ص ٣٣٣ ، ولسان العرب (ضبح) ، وتاج العروس (ضبح).

٥٣٨

قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم‌السلام ، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم ، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام. وقيل : هي الكواكب السبع حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وفي تدبيرها بالأمور وجهان : أحدهما تدبير طلوعها وأفولها ، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث ، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه ، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ) أي : تضطرب اضطرابا كثيرا مزعجا (الرَّاجِفَةُ) أي : الصيحة منصوب بالجواب ، أي : لتبعثنّ يا كفار مكة (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء ، أي : يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء ، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها. (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي : الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية ، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة ، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما ، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية. وقال قتادة رضي الله عنه : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى ، وقال عطاء : الراجفة القيامة والرادفة البعث. روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» (١).

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى (واجِفَةٌ) أي : خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب ، وقال مجاهد رضي الله عنه : وجلة. وقال السدّي : زائلة عن أماكنها ، نظيره (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) [غافر : ١٨].

(أَبْصارُها) أي : أبصار أصحابها ، فهو من الاستخدام (خاشِعَةٌ) أي : ذليلة من الخوف ، ولذا أضافها إلى القلوب ، كقوله تعالى : (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٥].

(يَقُولُونَ) أي : أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكارا للبعث (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) أي : بعد الموت (فِي الْحافِرَةِ) أي : في الحياة التي كنا فيها قبل الموت ، وهي حالتنا الأولى ، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا ، تقول العرب : رجع فلان في حافرته ، أي : رجع من حيث جاء ، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء. وقال بعضهم : الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، سميت حافرة بمعنى المحفورة. كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أي : مرضية ، وقيل : سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر ، أي : إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها ، وقال ابن زيد : الحافرة النار.

(أَإِذا كُنَّا) أي : كونا صار جبلة لنا. (عِظاماً نَخِرَةً) أي : بالية متفتتة نحيى بعد ذلك ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٤٥٧ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٥٠٠ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ٢٥٦ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٥١٣.

٥٣٩

وقرأ : أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني ، والباقون بالاستفهام فيهما ، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق ، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفا والباقون بغير إدخال.

وقرأ (نَخِرَةً) حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف ، وهما لغتان ، مثل : الطمع والطامع ، والحذر والحاذر ، معناهما البالية ، وفرق قوم بينهما فقالوا : النخرة البالية ، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي : تصوّت.

(قالُوا) أي : المنكرون للبعث (تِلْكَ) أي : رجعتنا العجيبة إلى الحياة (إِذاً) أي : إن صحت (كَرَّةٌ) أي : رجعة (خاسِرَةٌ) أي : ذات خسران أو خسار أصحابها ، والمعنى : إن صحت فنحن إذا خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم. وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة ، أي : ليست كائنة.

قال الله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ) أي : الرادفة التي يتبعها البعث (زَجْرَةٌ) أي : صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف (واحِدَةٌ) عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي ، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلا فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة : أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد ، فقد انتهى زمن الحصاد ، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد ، فيا خسارة من ليس له زاد.

(فَإِذا هُمْ) أي : فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق (بِالسَّاهِرَةِ) أي : صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، قال بعض أهل اللغة : تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان رضي الله عنه : هي أرض الشام ، وقال قتادة رضي الله عنه : هي جهنم.

فإن قيل : بم يتعلق (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ؟) أجيب : بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) يعني : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى ، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى.

وقال الزمخشري : الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك ، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم : عين ساهرة أي : جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس (١) :

وساهرة يضحى السراب مجللا

لأقطارها قد جبتها متلثما

أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة. وقال الراغب : هي وجه الأرض. وقيل : أرض القيامة ، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها كأنها سهرت من ذلك ، والأسهران عرقان في الأنف ، والساهور غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الساهرة أرض من فضة لم يعص الله عليها قط جعلها حينئذ ، وقيل : الساهرة اسم للأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه : جبل بيت المقدس. وقال عثمان بن أبي العاتكة : إنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام ، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمدّه الله تعالى كيف شاء.

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥٤٠